دير مار أنطونيوس قزحيا

وادي قاديشا يُعرَف بِهذا الإسم نِسبةً الى مغارة قاديشا الواقعة فيه، ولَكِنَّه اشتهر باسم وادي قنّوبين نسبة لدير قنّوبين الذي يقوم فيه. ويقع هذا الوادي جغرافياً في جِبَّة بشرّي، تلك الناحية الجَبلية العالية في شمال لبنان، ولأجل ذلك اكتسبت اسم "الجِبَّة" لأن هذه الكلمة تعني بالسِريانية العلوَّ والإرتفاع. أمّا كَلِمة  قَنّوبين  فَمُتحَدِرَة من اللغة اليونانية  Koinobion التي تعني "جماعة تعيش حياةً مُشتركة عِمادُها المَحَبة والصلاة". وكلمة "قاديشا" آرامية آتية من جَذْرٍ ساميّ، وأصلها "قاديشو" بمعنى "المُقدَّس"، فوادي قاديشا هو "الوادي المقدَّس".  

ولكنَّ هذه الصِفَة لم تُطلَق عليه إلّا منذ القرن السابع، حين قَصَده الموارنة وانتشر نُسّاكهم وحبساؤهم في مَغاورِه والمحابس التي زرعوها على جانبيه، وتَكرَّسَ هذا الاسم نهائياً في القرن السابع عشر على يد المُرسَلين الغربيين والبطريرك إسطفان الدويهي. وهو يُسمّى أيضاً "وادي الذخائر"، نِسبةً لذخائر القِديسين الذين زُرِعوا بالمِئات في مَغاوِرِه وحَفافيه، إذ توالى عليه كثير من المُتَعبِّدين على اختلاف مُعتَقَداتِهم، ولكنَّ الموارنة طَبعوه بِطابَع نُسكِهِم أكثر من غيرهم لأنهم لجأوا اليه ليس فقط للتعبُّد، بل للحماية من الإضطهادات، وطلباً للعيش والصمود والقداسة. ويَمتَدّ هذا الوادي من موقِع مَغارة قاديشا التي يتدفَّق منها نبعٌ تنحدر مياهه نزولاً حتى مزرعة النهر حيث يلتقي هناك بوادي قزحيّا. وهو يَتَمَيز عن سائر الأودية بكونه يبدأ بخسوفٍ حادّ، يوحي بأن الارض قد تكون تَعرَّضَت لعوامِل طبيعية أدَّت الى هذا التجويف العَميق

 

أمّا وادي قزحيّا فيُدعى "الوادي الصغير" إذ لا يتجاوز طوله الثلاثة كيلومترات، فهو يَمتَدّ من مزرعة النهر صعوداً حتى أسفل بلدة كفرصغاب. ودير مار أنطونيوس القائم فيه، يَعود وجوده إلى أوائل القرن الرّابع، كونه تَزامن مع انتشار الحياة النّسكيّة في الشّرق، وهناك شهادات من التّاريخ تُثبت أهميّة هذا الدّير وقِدَمَهُ

 

كان الدير، منذ القديم، ركيزة الحياة النسكيَّة في الكنيسة المارونيَّة، ومدرسةً للتنشئة الرهبانيَّة. استهوَت محابسه، وبخاصةٍ محبسة مار بيشاي، النسَّاك الراغبين في عيش الإنفراد والزهد. وكان من بين أولئك النسَّاك الحبساء البطاركة: موسى العكَّاري (1524-1567)، ميخائيل الرزِّي (1567-1581)، سركيس الرزِّي (1581-1596)، يوسف الرزِّي (1596-1608). وتجدر الإشارة إلى أنَّ أوَّل مَطبعة وصلت إلى الشرق كانت سنة 1585، أيّ في أيَّام البطريرك سركيس الرزِّي على حدِّ قول بعضهم، لكنَّ بعضهم الآخر يرى أنَّ التاريخ كان سنة 1610، إذ إنَّ أوَّل كتابٍ طُبِعَ فيها كان كتاب المزامير سنة 1610

 

تَسلَّمت الرهبانيَّة اللبنانيَّة الدير، سنة 1708، من المطران يوحنَّا حبقوق، في عهد المؤسِّس الأب العام عبدالله قرأعلي الذي قام بإدارته بنفسه، واتَّخذته الرهبانيَّة مركزاً للرئاسة العامَّة، من سنة 1708 حتَّى سنة 1723، نظراً إلى أهمِّيَته التاريخيَّة والكنسيَّة والاجتماعيَّة

 

تجدر الإشارة إلى أنَّ دير قزحيَّا يضمُّ مكتبةً تَحتوي على أرشيفٍ ومخطوطاتٍ سريانيَّةٍ وَموسوعاتٍ علميَّة. وهو ما زال، كما في أوَّل عهده العريق، مزارًا ومَوئِلاً ومحجّةً للرَّاغبين في الصلاة والعزلة والاستشفاء والاسترشاد والتأمُّل

يُذكَر أن لبنان كان قد شهد في العام 1585 أول مطبعة بالاحرف السريانية في العالم العربي، وذلك في  هذا الدير، ليصدرعنها بعد سنوات نسخة عن كتاب المزامير بالحرف السرياني في عام 1610

Locationhttps://goo.gl/maps/gjrkyGLQkRRyzWxc7