بلدة سمار جبيل، قضاء البترون، تقع بين بلدات مراح شديد وجران شمالاً، وتحدّها شرقًا جران مراح الزيّات وغوما، أمّا جنوبًا فوادي حَربا الذي يُسمّى أيضاً وادي المَدفون ومن الغرب بلدة راشانا. والمُلفت أنّ وادي حربا الآنف الذّكر عرف حديثاً باسم "وادي القديسة رفقا". ترتفع سمار جبيل 500 متر عن سطح البحر، وتبعُد عن العاصمة بيروت 53 كيلومتراً، وعن البترون مركز القضاء عشرة كيلومترات.
بالنسبة الى اسمها يقول الدكتور أنيس فريحة في كتابه "مُعجم أسماء المدن والبلدات والقرى اللبنانية" انّه على الأرجح تحريف لاسمٍ فينيقيّ قديم يعني الحارس والمراقب أو الحراسة والمراقبة، فيكون معناه: حارس أو رقيب جبيل.
إنّ سمار جبيل مدينة تاريخيّة تكثر فيها الآثار وأقدمها قلعة يُعتقد بأنّها تعود الى أيام الفينيقيين، إذ تظهر في أساساتها صِناعة تقطيع الصخور التي اشتُهِر بها الفينيقيون في أيام الحكم الأشوري، وقد طرأت عليها تغييرات أيام اليونان والرومان والصليبيين والعرب وأخيراً الحُكام اللبنانيين، ويقال ان في هذه القلعة سرداباً يصلها تحت الأرض بمنطقة المدفون.
والى جانب هذه القيمة الأثرية التي أَضْفَتْها عليها قلعتُها، للبلدة قيمةٌ تاريخية دينية أيضاً إذ إنّ أول بطريرك ماروني، وهو مار يوحنّا مارون الأول، اتخذها مركزاً له قبل ان ينتقل الى كفرحيّ، إضافة إلى كونها تضمّ كنيستين قديمتين هما كنيسة مار نوهرا وكنيسة سيَّدة المعونات.
وحديثنا في ما يلي هو عن كنيسة مار نوهرا، التي تُعتبَر من أقدم الكنائس في الشرق، حيث يقال إنها تعود الى القرن الثالث بعد المسيح، وهي، على الأرجح، الكنيسة الأولى في لبنان التي حَملت اسم القديس نوهرا. ولا بدَّ هنا من التعريف بهذا القديس الذي على اسمه بُنيت 24 كنيسة في لبنان، وذلك نقلاً عن كُتَيِّب "مار نُوهرا الشهيد" الصادر عن جامعة الروح القدس عام 2015، حيث نقرأ أن القدّيس "نوهرا"، ومعنى اسمه بالسريانية "النور"، وُلد في مدينة دَمَنْهوُرَ في مِصْر في عائلة وثنية، وله أخ وأخت استُشهد كلاهما في ما بعد. نشأ على حُب العلم منذ صغره، وكان يتساءل في هذه المرحلة عن الآلهة المعبودة من عائلته وهي جامدة لا يَصدُر عنها ما يُشعر بأنها حية وموجودة.
وكان أن تَعرَّف الى شخص مسيحيّ، فَتلقَّن على يده العلوم المسيحية. ومرةً ظَهَر له الرب يسوع، وقال له إن كل هبات الإنسان هي منه، وإنه سيّد الأحياء والأموات ورَبُّ القيامة. فَحَمِل صليبَ الربّ إذ آمن به، ونال مع أهله سرَّ المعمودية، ثم ودَّعهم وراح يُبشِّر في الإسكندرية. فَطَرده حاكمها، إنما تبعه 2200 من أهل المدينة فأصبحت المدينة فارغة. لذلك سَمَح الحاكِم لأتباعه ببناء الكنائس وإقامة احتفالاتهم الدينية علنًا. وإذ وُلِّيَ دوقيانوس حاكماً ليُدير الاضطهادات قرَّر نوهرا مُقابلته. وفي طريقه إليه آمن كثيرون بالرب في المُدن التي مرَّ بها، وكانت العجائب تجري بشفاعته، حتى وَصَل الى صور حيثُ تَعمَّد على يده أكثر من 3000 شخص، فَبَنى لهم كنيسة "على اسم العذراء". وعلى يده اعتمد ملك جبيل، بعد أن تلقّى البشارة منه، وكثيرون من رجاله.
وبوصوله الى البترون استدعاه حاكِمُها دوقيانوس ليَستعلِم عن أمره، فأجابه بأنه مرسَل من الرب، مُضيفاً له أن ربَّه ليس كالأصنام التي لا تنظر ولا تسمع. فاغتاظ الحاكم من كلامه وأمر بسَوقه الى العذاب، فطلب منه ان يرى الأصنام ليعبدها. فنقله الحاكم الى جبيل وتبعه إليها كثيرون، وهناك دخل الهيكل الوثنيّ راسماً اشارة الصليب، فتساقطت التماثيل وتحطمت، وانفتحت الارض وابتلعتها، فسُمع صوت يصرخ: "قد أخزيتني يا نوهرا". فلمّا رأى الحاكِم ذلك قرَّر تعذيبه، فرماه في بئر مقطوعاً نِصفَين، لكنَّ الملاك جمع أوصاله فقام حيّاً. فاعتقد الملك إن ذلك عمل سِحريّ وأمر بوضعه على مسامير حامية، موضوعة على عَجَلة تجري به في البلدة. فراح يَقَتبل الأوجاع، ومرَّ بِكسيحٍ آمن به فشفي، وإذ ذاك اعتمد ثمانية آلاف رجل. فقرَّر دوقيانوس إنهاء حياته... حيث أسلم الروح مقطوعاً رأسه بالسيف ونائلاً الشهادة.
بالعودة الى كنيسة مار نُهرا في سمار جبيل، يتبيّن أنّ أول ذِكرٍ لهذه الكنيسة ورد باللغة السِريانية في كتاب إنجيلٍ قديم موجود في المَكتبة الماديشية في فلورنسا. وقد جاء في كتابٍ بالفرنسية لمؤلفه فيكتور صوما عنوانه "على خُطى القدّيسين في لبنان" إن "السِريان شادوا منذ زمنٍ مُغرقٍ في القِدَم كنيسةً في سمار جبيل على اسم القدّيسَين مار نوهرا ومار باسيليوس، وهي الكنيسة الأهمّ في القرية. وفي حائط الكنيسة مُدوَّنة سِريانية تَشهَد بأن المكان حيث النقش يَضُمّ جثمان كاهنٍ مُعتبَر، وقد جرى تحديث الجزء الشمالي منها مع واجهته ذات اللون السُّكَّريّ وسلسلته التزينيية المثلَّثة. أما الواجهة الغربية فهي عتيقة ولكنها ليست قديمة بل الحائط الجنوبيّ هو القديم.. مع نافذته الصغيرة الظريفة التي تعود الى العصر الوسيط، والعمل التزيينيّ الذي يعلو عملاً بنائياً كلاسيكياً. والكنيسة مَبنية من بقايا حِجارة هيكلٍ قديم، وتَضمّ جُثمان هذا القديس الذي هو نموذجيٌّ في طابعه اللبنانيّ. وقد أصبحت هذه الكنيسة مَحَجَّةً للَّذين يطلبون شفاعة مار نوهرا". وتعقيبًا لما ورد اعلاه كُشف مؤخرًا خلف الحائط الشرقي عن موزاييك تزيّن أرض حنية بيزنطية تمّ ابرازها حديثًا تعلوها حنية كنيسة تعود إلى القرون الوسطى. كلتا الحنيتين تحت مستوى الكنيسة الحالية .
والقديس نُهرا نجد له ذكراً في البِيْت غازو الماروني الذي يعود الى سنة 1263 بِحَسب المَخطوط البريطاني Add. 14.701 الذي نَشره الأباتي يوحنِّا تابت سنة 2000 ضِمن مَجموعَةِ البِيْتْ غَازو المارونيّ في جَامِعة الرُّوحِ القدس- الكسليك. كما ان هُناك فرضاً مُخصصاً له في الفَنْقِيتِ (المَتَعيَّد) الصَّيفيّ المارونيّ المطبوع سنة 1666 في روما. وقد خَصَّصَ له المُؤرِّخ المارونيُّ جبرايل إبن القلاعي (+1516) مديحةً زَجَليَّة بعدما شفاه مار نوهرا من مرض عُضال. وقد نَشرتها لأول مرة رعية مار نوهرا في سمار جبيل نقلاً عن مخطوطٍ محفوظٍ في مكتبة الآباء المرسَلين اللبنانيّين الموارنة، جونية، لبنان.
وعن هذه الكنيسة يقول الدكتور كريستيان الخوري في الجزء السادس، المُخصَّص لقضاء البترون، من سِلسِلته الموسوعية: "العذراء مريم في لبنان" إنَّها مبنية جزئياً بحِجارة مَعبدٍ رومانيّ يرقى الى العصور القديمة أو المتوسطة ، وهي على طراز المباني اللبنانية التقليدية، من ذلك أن الدَرَج المُعلّق الذي يؤدّي الى سَطحها هو خارجيّ لا في قلب البناء، وهي طريقة ما زلنا نشهد نماذج منها حتى اليوم. طولها مع الدهليز 20 متراً، وعرضها 15، وعلوُّها 8 أمتار. وهي جزء من بناءٍ كبيرٍ واسع، وذات ثلاثة أسواق، يتقدَّمها في الجهة الغربية من البناء رواق واسع مُتْقَن ذو أربع قناطر غربية... ويُلاحظ بأنّ الرّواق تمّ بناؤه في مرحلة لاحقة... ونَرى فوق مَدخل الكنيسة الشمالي سِلسِلةً حَجَرية مُعلَّقة، توجد في أسفلها سطَيلة، وهذه السِلسِلة هي من صِنع الياس الخوري وهي مؤلفة من كتلة حَجَرية واحدة. وكان المدعو الياس ينجز عمله ليلًا دون أن يراه او يَدري به أحد، إلى أن عَلَّق سلسلته هذه في وضح النهار فوق الباب الرئيسيّ للكنيسة مفاجئاً بها أبناء البلدة. وتشبه هذه السلسلة تلك التي ترتفع فوق باب "الحَمّام الجديد" في طرابلس، وهنالك سلسلة مماثلة أصغر حجماً، على قبة كنيسة مار شينا - قنات، وهي بلدة زوجة معلّم إلياس... وساكِف أحد الأبواب الغربية للكنيسة عليه صورة حيوانٍ غير معروف، وعند أسفل هذا الباب يَركُن حَجَر مُنفصِل عن البناء نقرأ عليه: "إنتقلت الى رحمته تعالى حُرمة صادق الخوري سنة1853".
الحيوان الغير معروف والمذكور أعلاه على العتبة العلوية لباب الكنيسة الأيمن في الرواق، وهو بالأصل باب كنيسة سيّدة الزيارة، هو النمس mangousteوغالبًا ما يُصوّر النمس وهو يلتهم أفعى، رمزًا للخير الذي ينتصر على الشر. والمعروف عن النمس بأنّه يهاجم الأفاعي، وتساعده سرعته الكبيرة على مطاردتها وقتلها... ويُشار إلى أن هذا الحيوان كان موجودًا أيضًا على جدار إحدى الكنائس في فلسطين...كما يوجد على عمود بالقرب من باب اليسار في الرِواق، وعلى عتبة الباب ذاته، صليبان أحدهما مشقوق الطرفين ((bifide ذو نتوءين في كل نهاية والآخر ثلاثي الطرف ( (trifide ذو ثلاثة نتوءات في كل نهاية.
واللافِت للنَظر إن الأعمدة الأربعة الّتي تستند عليها قناطر الكنيسة الداخلية تَحمِل نقوشاً مَضغوطَة matrice وغير محفورة، عليها رموز دينية في جِهاتها الأربع. وفي العام 2025 خضعت الكنيسة لورشة ترميم بهمّة خادم الرعية الخوري إيلي سعاده ولجنة الوقف وأهالي البلدة، وذلك بإشراف المهندس المُرمِّم رولان الحداد المُنتدب من قبل المديرية العامة للآثار، بحيث أُظهِرَت فيها كافة النقوش المضغوطة matrice ذات الطراز العثماني، والمماثلة لتلك الموجودة على أعمدة الوسط، وهي الكنيسة الأغنى في لبنان من هذا النوع من الرسوم المضغوطة.
كذلك أظهرت الرسوم التي كانت تزين جدرانها الداخلية وذلك بإزالة طبقات الطلاء عنها مع إعادة ألوانها الأساسية، وإعادة اضفاء الطابع الأساسي لحنيّة الوسط، من حيث الشكل والرسومات...كذلك ترميم المذبحين الجانبيين وإعادة رسومتهما وألوانهما الأصلية، بالإضافة إلى عملية منع نش وتنظيف وتكحيل جدرانها الخارجية ... وذلك بتمويلٍ ذاتي من أبناء الرعية والمحسنين.
يعلو مَذبحها الأوسط صورة زيتية لمار نُهرا يُعتقد انها لداود القرم. وعلى المَذبح الأيمن صورة زيتية لمار باسيليوس لداود القرم أيضاً سنة 1892، الذي رسم كذلك صورة المذبح الأيسر الزيتية التي تُمثّل السيّدة العذراء سنة 1878. ونَجِد على المذبح الأوسط كتابةً منقوشة ، نصّها كالآتي:
"قد انتهى بأمر قُدس السيّد البطريرك الأنطاكي ماري بولص مسعد الكلي الطوبى والنيافة، خلَّد الله أيام رياسته للدوام. عمل المعلّم لياس بربري الحلبي – 20 تموز".
ومن ضمن بنائها قُطع أعمدة وحِجارة مَنحوتة تعود على الأرجح الى هيكلٍ وثنيّ. أمّا جرن المياه المُبارَكة عِند مَدخَل الكنيسة الغربي، فيحمِل نقوشاً نافرة لصُلبان يونانية مُتساوية الأجزاء، والنقوش النافرة تبدو أيضاً على جِرن العِماد وتُمثّل صلباناً مالطيَّة. يُلاحَظ كذلك على بعض الجدران الداخلية في الكنيسة رسوم تعود الى القرن الثالث عشر يعمد الباحِث ليفون نورديغيان على دِراستها وتحليلها. أمّا على جدارها الخارجي فتوجد كتابة سريانية زال بمرور الزمن جزء منها نصّها كالآتي:
"Kohno zahyo, horko da 'nad" "أيّ كاهن قُبر في هذا المكان. وقد طُمس اسمه وتاريخ وفاته، وهذه الكتابة كان رينان Ernest Renan أوّل من كتب عنها سنة 1860 . هل يمكن أن يكون هذا الكاهن الشهير المذكور، والذي يعود أسلوب كتابته إلى القرن الثامن، مار نوهرا؟
وعلى مقربة من كنيسة مار نوهرا، الى جِهتها الغربية، وقبل مَدخل القلعة، تُوجد بئر نقرأ بِشأنها في كتاب الدكتور كريستيان الخوري "السيّدة العذراء" – الجزء السادس ما يلي: "في بَعض التقليد أنّ القدّيس نوهرا إستُشهد في سبيل المسيح في سمار جبيل. ويَحِجُّ الناذرون للقدّيس نوهرا، شفيع العيون والبصر، الى مكان جنوبيّ القلعة فيه بئر مياه يُسمّونها "بير مار نوهرا".. التي يُتابع التقليد قائلاً عنها إنّها البئر التي رُمي فيها جثمان هذا القدّيس. كما ذكر المؤرخ المطران "جبرائيل أبن القلاعي" في القرن الخامس عشر زجلية:
"بخبِّر فيا قصة القديس نوهرا بعد إصابتو بالعَمى وشفائو من ميّة هالبير".
كذلك يقول الأب ايلي سعادة، كاهن رعية مار نوهرا – سمار جبيل: "البعض بقولو انو هُوّي وُلد بمنطقة "منهور" ببلاد فارس، لكنّ الوثايق الجديدة يللي عَم نِنبِشا بتقول انو وُلد "بدمنهور" بصعيد مصر، وكان أكيد وثني، ولكن فيما بعد تَعرَّف عَ يسوع، وتَعمّد، وبَلّش يبَشِّر بجنوب لبنان، ووصل ع جبيل والبترون وهونيك بيتشكّو عليه الأهالي. وبتقول القِصة إنّو لمّا سألو مرتين وتلاتي شو اسمك وشو ديانتك بقلّون: "أنا مسيحي"، بشيلو عينيه وبكبّوهن بالبير، وهالبير صار محجّ للمؤمنين".
ومن الواضح أن هناك عِلاقة وثيقة بين أهالي سمار جبيل وهذه البئر، حَيثُ تقضي العادة، في عيد مار نُهرا السَنوي، بإقامة صلاة يجري خِلالِها تبريك مياه البئر، بِحضور حَشد من أبناء البلدة والجوار وطالبي نِعمَة شفاء عيونهم. كما أن هناك عادة تقليدية مُتَّبعة حتى اليوم بأن يَؤمّ البئر على مدار السَنة زوار يَرمون فيها قِطعة نَقدية قائلين: "يا مار نوهرا حضار حضار، جاييك من ... زوّار". يُحتفل بعيد مار نوهرا الشهيد في ٢٢ تموز.
وفي تلك القرية أُنشئ أيضاً مَقام على اسم القديسة تقلا (Thècle) شقيقة القديس نوهرا.