كنيسة مار شربل الرهاوي - معاد

معاد هي قرية تابعة لقضاء جبيل، تَبعُد عن مركز القضاء مسافة خمسة كيلومترات، ويتمُّ الوصول إليها عن طريق المرور بقرى جِدّايل وشيخان وغرزوز. في هذه القرية تقوم كنيسة أثرية قديمة على اسم "مار شربل الرهاوي"، وهو أوّل قديس حمل هذا الاسم.

أمّا كنية "الرهاوي" فهي نِسبةً إلى "الرُّها"، التي تُدعى أيضاً "أورفا" (Edesse) والتي جاء عنها في مُعجم "المُنجد" إنها "مدينة بين النهرين في تركيا، اشتُهِرَت بين القرنين الثالث والخامس بمعاهِدِها العِلمية، حتى أصَبَحَت عاصِمَة الثقافة والأدب. فَتحها العرب (639)، ودخلها البيزنطيون (942)، ثم الإفرنج (1098)، ثم مَلك الموصِل عماد الدين.. حتى استقرَّت في أيدي بني عثمان (1637). أشهر أساتذتها القديس إفرام السِرياني ورابولا الأسقف، ومن بعدهما خَضَعَت لتعاليم النساطرة".

والقديس شَربل، شفيع كنيستها التي هي موضوع كلامنا، كان رئيس الكهّان الوثنيين الذين كانوا يُضَحّون لآلهة أورفا، فاعتنق المسيحية مع شقيقته بابال. استُشهِدَ في عَهد الإمبراطور "ديس" (Dèce 236-250) بقطع رأسه. فَتقدَّمَت شَقيقته عندئذٍ وبَسَطَت "تنّورتها" ليَسقُط دَمُه عليها متضرّعةً "فلَتَكُن روحُك مُتَّحِدةً بروحي في حُضور المسيح.. الذي عرفتَه وآمنتَ به"، ثم عُذِّبت هي في المكان نَفسِه الذي التقطت فيه دم أخيها، وتقع ذِكرى استشهادهما في 5 ايلول.

بالنسبة إلى القرية نفسها "معاد"، فإن للدكتور أنيس فريحة تعريفاً لاسمها في كتابه "مُعجم أسماء المدن والقرى اللبنانية" بقوله إنه يعني العاديَّ والمُعتاد والمألوف، وإنه قد يكون من جَذر "وَعد" وهو ساميّ مُشتَرَك بمعنى الوقت ومنها المَوعد والميعاد، وفي العبرية يعني الموعد والمُلتقى، وليسَ بمُستبعَدٍ أن يكون هذا الاسم فينيقياً مُحرَّفاً بمعنى المُلتقى ومكان الاجتماع.

أمّا من الناحية التاريخية، فإنّ الكنيسة تقوم على أنقاض أخرى أقدم منها، كانت في الأصل مَعبَدًا وثنيًّا أُنشِئَت على أنقاضه كنيسة بيزنطية (القرنان الخامس والسادس) أُعيدَ بناؤها على أيام الصليبيين (القرنان الثاني عشر والثالث عشر)، ثمّ رُمِّمَت في نهاية القرن التاسع عشر، واستُحدِثَ فيها المدخل الشماليّ، كما فُتحت نوافذ في الجدارَين الشمالي والجنوبي.

`أمّا من حيث هندستها، فأوّل ما يَلفُتُ انتباهنا في تلك الكنيسة رواقها، وهو عبارة عن مدخلٍ أضيف إليها في فترةٍ لاحقة، يَحوي حاليّاً قِطَعاً أثرية عُثر عليها في جِوار الكنيسة. هي مؤلَّفة من تيجانٍ وقواعد أعمدة وصفائح مدفنية، بالإضافة إلى قِطَع فُسيفساء تعود إلى فتراتٍ رومانية متأخرة (من القرنين الثالث والرابع) وبيزنطية (من القرنين الخامس والسادس)، كما نَجِد إلى يسار المدخل ناووساً حُفرت عليه زخارف، وهو يعود إلى الحقبة الصليبية، ويُرَجَّح أنه يضمُّ جثمان إحدى السيّدات الصليبيّات التي تُعرَف بـ "حنة الفرنجية" وقد توفّيت سنة 1243.

من الداخل تتَّخذ الكنيسة شَكلاً بازيليكياً، ويقسمها إلى ثلاثة أجنحة أو أروقة صفّان من القناطر. هي مَسقوفة بعقودٍ نِصف أسطوانية. أمّا قواعد الأعمدة، ذات الأصل الروماني، فقد تمّ استخدامها بشكل غير منتظم، إذ نرى أنّه أحيانًا تمّ استخدام التّاج كقاعدة، وأحيانًا أخرى استُخدمت القاعدة كتاج.

أرض الكنيسة مفروشة ببلاطٍ، قسمٌ منه قديم يعود إلى المعبد الروماني، وفوهة البئر المُستديرة تَتَوسط الرواق، وتَرتفع إلى مُستوى المذبح. أمّا العَقد المَركزيّ فهو مُزيَّن برسومٍ زخرفية تعود إلى العَهد العُثماني. ونَلمَحُ في الناحية الشرقية حنيَّتَي الكنيسة وهما مُتراكبتان، وهو أمرٌ نادر وفريد، يَسمَح بالتكهُّن بأن بِناء الكنيسة مرَّ بعدَّة مراحل. والحَنيَّة السُفلى تنتمي إلى الكنيسة الأقدم، وهي تَحتوي على جِدرانية تُمثّل مَجموعةً من سَبعة قديسين، وعلى جانبَي الأسقف الوسطيّ، الذي لا تزال هويته صعبة التحديد، يبدو الرسول بطرس إلى اليسار حاملًا المفاتيح، وبولس إلى اليمين، يرافقهما الإنجيليون الأربعة. وعلى جِهتَي الحنيَّة المركزية يوجد مَدخَلان يعودان إلى قاعاتٍ مُلحقة مُستطيلة ذات قناطر نُصف أسطوانية. ويُمكننا أن نرى وراء الحنيَّة المركزية عتبة المعبد القديم.

الجَداريات الماثلة على الحائط الجنوبي تُطالعنا بِمشهدٍ يَمتدُّ إلى اليمين، يُمثّل رُقاد السيّدة العذراء، وهو يضمُّ الرُسل المُتجمّعين حول نَعشِها، ونرى أسماءهم مكتوبة بالأحرف السريانية. ونَجِد بين هؤلاء شخصية إكليريكية رفيعة المُستوى، والمسيح ماثل في وسط الجِدرانية يتأمّل والدته ويحمل بين يديه روحها المُتمثلة بصورة طفلٍ مُقمَّط بلفائف، لأن العذراء لم تَمُت بل انتقلت إلى السماء. كما نَجِد ملاكين في يد أحدهما قِماش، وهما يتحفَّزان لاستقبال هذه الروح في السماوات.. في حين يَقِف على جانبيّ المسيح كاهنان مُكلَّلا الرأس ومن دون لحية، وهما بلباسٍ أبيض ويحملان شمعداناً مُضاءً دليلاً على الخدمة الجنائزية، إنهما شمّاسان. ومن الجهة الأخرى للمشهد، إلى الأعلى، يظهر رسولان وصلا، بحَسَب قِصَّتَين مُختلفتَين، مُتأخّرَين، وهما الرسولان بارتولوماوس وتوما. وفي أسفل النَعش، نَجِد مَشهَداً غالباً ما يُرافق جِدرانيات رُقاد السيّدة: ديفونياس اليهودي من أورشليم، الذي لم يُؤمن بانتقال العذراء، فأراد قلب السرير حين ظَهَر ملاك وقَطَع بسيفه يدَي المُتطفّل. كما نَجِد إلى اليمين واهب الجِدرانية راكعاً، ويُرَجَّح من الإكليل على رأسه ومن ثوبه أنّه كاهن. وضِمن إطارٍ آخر، إلى يسار مَشهَد الرُقاد، نَجِد رسماً لمار يعقوب، من أورشليم، تعرّف عنه الكتابة اليونانية المدوَّنة بالقرب من وجهه.

الحائط الشماليّ تتوسطه فتحة صغيرة مُستطيلة الشَكل، كانت تُستخدَم لِحفظ رُفات مار شربل شفيع الكنيسة، لكنها فُقدت في ما بعد، كما نَجِد على الطبقة القديمة للرَسم صورة أسقفٍ يرتدي جبَّةً بيضاء اللون ومُزدانة بصلبانٍ سوداء.. وعلى رأسه تاج، ومُقابله قديسة شهيدة تَحمِل بيدها صليبها، وهذان القديسان هما على الأرجح مار شربل وشقيقته بابال. وتحت الفَتحة نَرى صورة رجلٍ مُتضرّعٍ ركوعاً، إنه واهب الصور، وفي الجهة اليمنى نَستطيع مُشاهدة يدَين مَمدودتَين في وضعيّة تَضرُّع، وهذا ما تبقَّى من أهبة تجسُّدٍ عند أسفل صورة القديس.

وفي وسط الطبقة الثانية من الطلاء، وهي الأحدث، نرى رئيس الملائكة مار ميخائيل حاملاً رِمحاً وفي يده اليُسرى كُرة تُظهِرُ وجه المسيح.. مع الجناس التصحيفي لاسمه باللغة اليونانية. كما نرى إلى اليسار وجه أسقفٍ يرتدي التاج اللاتيني والبطرشان الشرقي، وتَقِف في الناحية المُقابلة قديسة شهيدة هي أيضاً مجهولة الهوية، ويَسجُد إلى اليسار، واهب الجِدرانية، وهو كاهن نَعرِفُه من تَسريحة شَعره ولباسه، مادّاً يديه مُتضرّعاً باتّجاه الأسقف.

وَشَرْحُ هذه المَشاهد تُقدّمه لنا رسوم الواهبين، وهم عدّة، وتشهد على أن هذا المكان قد شكَّل نذراً لخلاص نفوسهم، إذ أن الصور والمشاهد تدُلّ على ذلك؛ فإن القدّيسين الماثلين فيها بِصِفَة حُماةٍ وشفعاء للبشرية او للموتى، ووجود ميخائيل وازن الأرواح يوم الدينونة، ومَشهَد رُقاد السيّدة العذراء، كل هذه العناصر توحي برمزيةٍ جنائزية ونِذرية.

من الناحية الجمالية فإن رسوم الأشخاص الماثلين على الطبقتين تَحمِلان السمات ذاتها. وتتميز اللغة الفَنّية باستبعاد المُجسَّم والبُعد الثالث، كما إن جبهية الأوضاع، وصرامة المَلامِح ذات الجُمود الشرقيّ.. كُلها ميّزات تَحمِلُنا على ربط هذه الرسوم بالتُراث المَشرقيّ المَحلّيّ، الذي ازدَهَر في جبل لبنان في القرن الثالث عشر.

كُلُّ ما جاء أعلاه مُستَقى من نَشرة لجَمعية المُحافظة على جِدرانيات الكنائس القديمة في لبنان، أمّا الدكتور كريستيان الخوري، في كتابه "العذراء مريم في لبنان" – الجزء السابع – فيؤكد ما جاء من أن هذه الكنيسة، القديمة جداً، قد بُنيت على أنقاض هيكلٍ وثنيّ، مُستشهداً بالنُصب الذي نَقَلَه رينان إلى فرنسا، ليوضَع في مَتحَف اللوفر، واصفاً إياه بأنه عمود مُستدير من الحَجر الكلسيّ، يَحمِل كِتابةً من ثمانية أسطرٍ باللغة اليونانية، تفسيرها أن هذا النُصب، هو تقدمة إلى الإله "ستراب" من رجلٍ يُدعى تاموس فيليبُّس دابدو سيبوس.. وذلك في السنة الثالثة والعشرين لانتصار الأمبراطور أغوسطوس قيصر في معركة أكسيوم، الموافقة السنة الثامنة قبل المسيح.

ويضيف الدكتور كريستيان الخوري إن مدخل الكنيسة الغربي هذا قد تحوّل مؤخراً إلى ما يشبه مَتحَفاً للكنيسة.. حيث تُحفظ جميع  اللُّقى التي عُثر عليها أثناء الحفريات التي أُجرِيَت منذ سنة 1944 حتى اليوم.

ويُتابِع المؤلّف بأنه وقُبَيل الحرب العالمية الأولى، تمَّ بناء جدارَين لجِهتَي الجنوب والغرب لِحُفظ الحُجرات التاريخية الثلاثة. الجِدار الجنوبيّ هو جدار مزدوج، وفي وسط الواجهة الغربية بوابة أصبحت تُشكِّل مَدخلاً رئيساً للكنيسة، مع نافذتين عن يمين المدخل ويساره. فالهندسة العامة مُعاصرة لتاريخ العمل، لكنّها لا تَتَناسب مع الطابع الأثريّ القديم للكنيسة.

ويتابع المؤلّف وَصفه قائلاً: "عن يمين المَدخل هناك مَدفن مُزخرف.. يقول التقليد أنه لفرنسيةٍ تُعرَف باسم آنّ بولانجيه، وهي ابنة احد الأشراف الصليبيين، فيما أشار الأب شيخو إلى أنها ابنة شريفٍ "من بلاد جرمانيا يدعى كاباس".

ويُضيف كريستيان الخوري قائلاً إن في هذه الكنيسة كتاباتٍ عددها أربعة: الأولى هي التي نُقلت بواسطة رينان إلى متحف اللوفر، والثانية لا تزال مَحفوظةً في الحُجرَة الغربية من الكنيسة، وهي بعلوّ 84 سنتم وعرض 48 سنتم، ويتراوح عرض الكتابة فيها بين 3 و 4 سنتم، ويُقال ان قراءة هذه الكتابة لا يُمكن أن تتمّ إلاّ على ضوء الكتابة الأولى لأنهما مُتكاملتان. وقد تعذَّر على رينان، على ما يبدو، نقل هذا الحَجَر إلى فرنسا لأنه كان مُثبَّتاً، في ذلك التاريخ، بقاعدة المذبح.

الكتابة الثالثة مُثبَّتة حديثاً على عامود بواسطة المديرية العامة الآثار في الحجرة الغربية ايضاً. أمّا الرابعة، وهي قديمة جداً عُثر عليها حديثاً، فهي مَحفورة على عتبة النافذة الشمالية، ويبدو ان فك رموزها ليس سهلاً.

ويتحَدَث كريستيان الخوري عن فُسيفساء الكنيسة فيقول: "عُثر على قِطَعٍ من الفسيفساء في أرض الهيكل، تعود بِحسَب الدراسات إلى الحقبة الواقعة بين القرنين الخامس والثامن للميلاد، وقد حُفظ ما سلم منها في أرض القاعة الغربية.

أمّا الأب حارس مطر، فقد حَدَّد التواريخ بقوله إن هذه الكنيسة قد انهدمت نحوَ العام 800 وأُعيدَ بناؤها في الحَقبة الصليبية أي في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ثم خَرُبت من جديد في العام 1615 اي في بداية العهد العُثماني، فأعاد بناءَها كاهن مارونيّ، بالاشتراك مع اهالي معاد، في العام 1723.

والجدير بالذِكر أن جِداريات هذه الكنيسة قد جرى ترميمُها في العامَين 2008 و 2009 باشراف M. Krzysztof Chmielewski من جامعة فرسوفيا للفنون.  وهذا المشروع أمكن تحقيقه بفضل "جمعية ترميم ودراسة الجدرانيات العائدة الى القرون الوسطى في لبنان" : « L’association pour la restauration et l’étude des fresques médiévales du Liban”, وبدَعِم من مؤسسة فيليب جبر.

 

 

 

Location: https://goo.gl/maps/kpEuLXPNVCuvZ9Em9

 Video https://youtu.be/aK7pIYGSm0g